الحمد لله الكريم الفتاح، فالق الإصباح، وخالق الأرواح، ومصور الأشباح، أحمده على نعم تتجدد بالغدو والرواح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهي للجنة مفتاح، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى والصلاح، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه ما بدا نجم ولاح.
أما بعد:
فإن من الوظائف الدينية والأعمال الشريفة الضرورية: وظيفة الفتوى وهي التصدي للإخبار عن أحكام الله تعالى وما يحتاج إليه المسلمون وغيرهم، من العبادات والمعاملات والمعاقدات والجنايات، حيث إن ربنا سبحانه قد كلفنا بالأوامر والنواهي، وأحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، فأرسل ببيان ذلك رسله، وأنزل به كتبه، وختم الرسل بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وختم الكتب بالقرآن الكريم الذي أنزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفه بقوله تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) [الشعراء: 192-195].
وأخبر تعالى بأنه قد أكمل لنا الدين وأنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضت لكم الإسلام دينا) [المائدة: 3].
وكلف نبيه بالبيان لما أجمل في القرآن فقال تعالى: (وأنزل إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) [النحل: 44]، وقال تعالى: (ليبين لهم الذي يختلفون فيه) [النحل: 39].
وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بالبيان الواضح لما أمره الله به قولا وفعلاً، ويدل على ذلك ما رواه مسلم في كتاب الإمارة: عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم من شر ما يعلمه لهم..." الحديث.
ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم أولى من قام بالبيان والبلاغ الذي كلف به، فقد قال تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من رب وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) [المائدة: 67]. وقد شهد له الصحابة رضي الله عنهم بذلك في حجة الوداع، فقالوا: "نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت"، فقال: "اللهم اشهد".
وقد حث صحابته على البلاغ بقوله: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع"، وقال: "بلغوا عني ولو آية"، بعد أن علمهم كل ما يحتاجون إليه.
فقد روى مسلم عن سلمان رضي الله عنه قال: "قال لنا المشركون: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، فقال أجل..." إلخ أي: أنه علمهم كل ما يحتاجون إليه حتى آداب التخلي التي قد يستحيا من ذكرها.
وقال أبو ذر رضي الله عنه: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علما". وذكر مرة بدء الخلق وما بعده، حتى ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه".
ثم إن الصحابة رضي الله عنهم قاموا بعده بالبيان والبلاغ لما حفظوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، وعلموا من بعدهم كل ما تلقوه من الأقوال والأفعال عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقامت بذلك الحجة، كما قال تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) [النساء: 165].